أن تكوني أنثى في حربٍ كحرب غزة يعني أنك أدق هدف لها وأكثرها إيلاماً، لن أكتب هذه المرة عن قصصكِ الشائكة مع زوجك في يومك العادي ولن أكتب عن معاناتك مع التغير المناخي وأنتِ لا تدرين به، وآسفةً لن أُعرّج على فقدانك لفرص العمل وحقك المُستقطع عُنوةً في مجتمعك النائم.
هذه المرة سنكشف وجه الحرب الحقيقي ونُعدّل بوصلة الفَهم وليس ليعلم العالم هذا ولكن لتعلمي أنتِ وتصلبي قامتكِ فما تبقى يستحق النجاة لأجلكِ أنتِ ولأجلنا جميعا..
طوال عمر القضية كانت المرأة المُتهم الرئيسي كمصنع الأجيال وحاضنة الثبات لباقي الشرائح في البيت الفلسطيني وكل المحاولات لقمع إرادتها وسلب قدراتها على البناء من خلال إبعادها، أسرها وسلب أبناءها وإخوتها وزوجها وحصارها وتقييد حركتها وفرصها في الحياة الطبيعية لم تكفِ المحتل ولم تُركع الضحية كما تمنى، فجاءت حرب غزة لتكشف أنياب أهدافه الحقيقية وتنزع اللثام عن إدعاءاته المزيفة.
وكأم وإمرأة حضرت حرب غزة لا أكتب استقاءاً من تقارير أممية أو مشاهد بُثت على أخبار التلفاز والسوشيال ميديا، أكتب من صوت صديقتي مريم التي هاتفتني تبكي يوم نامت تحت سماء ساحة مدرسة الصناعة ليالي على الرمال وهي في شهرها الخامس تنزف من تعب النزوح مشياً على أقدامها عبر ممر الموت على صلاح الدين هاربةً من الشمال للجنوب لتنجو بأطفالها وجنينها من موتٍ مُحقق هناك لتقضي جُل وقتها تبحث عن حمامٍ وقطع قماش لتوقف الدماء ولا تدري ما الحل.
أكتبُ من واقع ما رأت عيناي يوم قُيّدتُ لنحو إثنى عشر ساعةً مع نساء أُخريات علقن في الضفة الغربية صدفة يوم قام وحش الحرب وقررنا بعناد أن نعود لغزة معصوبات الأعين مقيدات الأيدي والأرجل وسط شتائم وإهانات جنود الاحتلال حتى أُلقينا على حدود غزة كالمشردين نركض نحو الموت ولا يجول في خاطرنا إلا أن نموت بين أحضان الأحبة.
أكتب عن ابنتي المراهقة وبكائها لعدم مقدرتي توفير الفوط الصحية والملابس الداخلية لها يوم قرر مجنون الحدود أن يمنع إدخالهم لغزة وكانت الأنثى وكرامتها هدفه الأسمى، يوم أخرجنا حُفاة نركض بلا وجهة من نزوحٍ لنزوح وفي كل مرة نبحث عن حذاء وحجاب جديد وماء لنبقى على طهارة على الأقل فندعوا السماء عليهم جميعاً.
لن أنسى أن أكتب عن زميلتي سماح واحدة من نحو 60 آلف من النساء الحوامل بالحرب و التي حملت بعد فترة طويلة من الانتظار واضطرت لأن تنزح مرات عديدة وهي تحمل خيمتها على ظهرها وجنينها الثقيل في بطنها ويوم أن جاءها المخاض كانت تركض ليلا باحثة عن أي عيادة طبية متنقلة بعد تدمير أغلب المستشفيات, كانت تستجدي الأطباء أن يجري أحدا لها عملية قيصرية كما مخطط لحالتها, ووسط كل هذا الجنون لم ترتح سماح حتى بعد وضعها جنينها سليما وأخيرا, فاضطرارها للعودة للخيمة بعد عملية كبرى كالقيصرية ووسط انعدام توافر المياه والملابس والفراش النظيف أدخلها وطفلها في مضاعفات تلوث ضخمة قادت جرحها ونفسيتها للانجرار والعيش في أيام سوداء بكت بها ولم تتوقف.
أكتب عن تلك الفتاة الجامعية التي قُتِل أفراد عائلتها جميعا ولم يتبقّ لها سوى ابنة أختها الطفلة التي لم تسنح لها الحياة أن تحزن بارتياح فدفنت أحبتها وانطلقت تبحث عن ماء وبامبرز وحليب لتُصبح أم بلا أم على حين غفلة. وآلاف الفتيات اللاتي توحلن بلا عائلات ولا معيل وأصبحن يواجهن خطر الاستغلال في كل لحظة وهن يحاولن تأمين أساسيات احتياجاتهم.
أكتب عن أكثر من عشرة آلاف إمرأة قُتلوا في غزة كانوا لا يحملون سلاحاً ولا يرمون حتى حجراً، كل ما في جعبتهم كان طفل يلصقوه في خاصرتهم وكسرات خبز مُخبأة وأمل بالعودة لظل بيتهم المُهدّم ولكن أينما نزحوا كانوا يُستهدفون في كل لحظة كان لا يجد القاتِل فيها هدفاً منطقياً.
نسيت أن أكتب لكم عن جوع الأمهات في الحرب, قرابة 600 ألف من النساء بغزة يعانون من انعدام حاد للأمن الغذائي, فلا مجال للشبع من صحن يتشاركه الأطفال والكبار بعد رحلة بحث مضنية تخوضها النساء يوميا لتوفير فتات لعوائلهن وصناعة الشيئ من اللاشيئ وعند حاجتها تركن جانبا لأن الأفواه كثيرة واسكاتها أولوية عن اسكات جوعها. فلا صمام أمان في الكون الا الأنثى للجميع ولا مجال الا أن تصلب قامتها وتمضي.
هذه الحرب اغتالت أرحام النساء ومهد قلوبهم، سرقت أمانهم النفسي وبريق أرواحهم، ولم تسنح لهم حتى أن يحزنوا للحظة فهم يركضون لجلب الماء وتوفير الخبز وعلاج الأمراض التي آكلت أجساد الأطفال وتدفن الحزن على الأحبة وتتمنى على الجميع أن يهبها خيمة خاصة لتستقل عن الأقارب وتضع حجابها يوماً لتخفف حر الخيمة وتتمدد أرضاً كما الأيام الخوالي في بيتها، تبكي وقت شاءت وتحكي ما شاءت ولا تخاف أحد.
أكثر الراكضين اليوم من الموت في بقع النزوح الضيقة في غزة هن النساء واستمرار الحرب هو استمرار لاستهدافهن وأطفالهن, فلم يتبق سواهم هدفا ملاحقا للاحتلال بعد تدمير كل ما يمت للحياة بصلة.